هل تعرف غزة ؟
وهل هناك أحدٌ يجهلها ؟!
غزَّة ! وما أدراك ما غزة؟!
حيث تجسَّدت العزَّة والكرامة شذًى وعنبرًا ينقله الهواء، فانتشر في أرْجاء غزَّة، فغمر بعبقِه الشَّوارع والأسْواق والمساجِد والبيوت والأندية، فاستنشقتْه الأرواح الغزيَّة كلُّها حتَّى صار جزءًا منها.
كيف يُمكنني أن أصِف صمودَها وصبرَها وحالها؟! وكيف يُمكنك أن تفهمه وأنا وأنت ما جُعْنا يومًا كاملاً حتَّى لَم نَجد ما يسدُّ جوعتَنا؟!
وأنا وأنت لَم نسمع طنين الطَّائرات فوق رُؤوسنا تلْقي بالقنابل فتسوِّي بيوتنا بالأرْض؟!
وأنا وأنت لم نُصبح يومًا بلا أهل ولا بيتٍ ولا مأْوى؟!
في زمنٍ مادي رقيعٍ صفيقٍ بِرجاله، حيثُ يبيع بعضُ النَّاس مبادئَهم وكرامتَهم وإنسانيَّتهم من أجل بطونِهم وشهواتِهم.
من أجل أن يبقَوا في مناصبِهم الزَّائلة.
من أجْل ليْلة حَمراء مع حسناء فاتنةٍ.
في زمن يُغضب فيه بعض النَّاس ربَّه ليرضى عنه المغضوبُ عليهم والضَّالُّون.
حين يركع الجميعُ أمام الغطْرسة الصهْيونيَّة، حين ينحني الجميع أمام العرْبدة الأمريكيَّة.
حين يقول الجبناء: نعم، تقول غزَّة وحْدها: لا.
تقولها بكل عزَّة وبكل إباء، وبكل نخوة وبكل شهامة، وبكل مروءة.
فتخْرج من فمِها عذبةً سلْسلاً فراتًا، مطربة جذَّابة.
يلتذُّ بها ويطرب لها كلُّ صاحب ذوق سليم في كلِّ أنحاء الأرض، من مسلمٍ وغير مسلمٍ، من عربيٍّ وعجمي، إلاَّ الخونة الَّذين قالوا:
ما أسمجَ لحنَها!
سنون خلتْ على بناء الجِدار الفاصل بين غزَّة والصَّهاينة، حيث حبسوا أهلَها في سجن كبير بعد الانسِحاب منها، ثم فرض الحصار المميت عليها بعد أنِ اختار أهلُها أن يقولوا: لا، ثمَّ نفِد صبْر العدوِّ الباغي حيث رأى الموت البطيء غيرَ ناجِعٍ في هذه الفِئة الفريدة من النَّاس، فهجم هجوم الوحش الهائج بأحْدث أسلِحة وأقْوى عتاد؛ ليُذيق غزَّة الموت السَّريع المباشر بعد فشَل الموت البطيء.
وقد أحكم خططَه واستمدَّ النصرة من أعوانه وأولياء نعمته في الغرب، واستسكتَ أذنابه في الشرق، وزمْجر في حرْبه وكشَّر عن أنيابه فيها، فقتل الرِّجال والنِّساء والأطْفال، وهدم المساجِد ودمَّر المنازل، وصبَّ قنابلَه الفسفوريَّة على العجائز والرضَّع، على مسمعٍ ومرْأى من المجتمع الدولي و (الأُمم المخذولة) و (مجلس الرعب)، وغايةُ ما قدر عليه مَن فيهم بقايا الإنسانيَّة حول العالم - من الجماهير المغْلوبة على أمرها - أن يُعلنوا عن شجْبِهم واستِنْكارهم للمجزْرة التي تقع في غزَّة.
وبعد أن تعِب الوحش الهائج من الهجوم وفعل كلَّ ما بوسعه، ومن تحت أنقاض المنازل المدمَّرة على رؤوس أصحابها، ومن داخل ثلاجات المستشفيات الَّتي عجَّت بالقتلى وامتلأت بالجرحى.
من تحت دخان القنابل وغارات الطَّائرات وقذائف المدافع، من بعد الجوع والعطَش والبرد والمرَض والعيش في العراء بلا مأوى ...
خرج أهل غزَّة من جديد ليقولوا بأجمعهم: لا!
قالها الرَّجُل والمرأة، والشَّابّ والفتاة، والشيخ الفاني والمرأة العجوز، والكبير والصغير (وهل في غزَّة صغير؟!) قالها الرَّضيع، وقالتْها الأجنَّة في بطون أمَّهاتِها، بل قالَها الموْتى في قبورهم.
كلَّت يد الجلاد ولم تئنَّ الضَّحيَّة، فضلاً عن أن تستَسْلم!
حتَّى ذهل العالم بأسْره، وقام الشُّرفاء في جميع أنحاء الأرْض تحيَّة لغزَّة وإجلالاً لها، وأزمعوا على تقْديم العون الإنساني لها، وتحرَّكوا بقوافل إنسانيَّة....
لا لدفْع الجوع والعطَش والمرض عن أهل غزَّة.
لا نصْرة لغزَّة.
بل نصْرة للضَّمير الإنساني.
والكرامة البشريَّة.
التي جسَّدتْهما غزَّة الصمود والكرامة والضَّمير.
قال الغزيُّون: إنَّ الكرامة فوق المأكل والمشْرب.
قال الغزيون: إنَّ نعمة العزَّة والشَّرف فوق نعمة الحياة نفسها.
فما كان من حراس أمنِ الوحش الغاشم إلاَّ أن أعاقوا طريق تلك القوافل الإغاثيَّة، وشدَّدوا وقسوا على هذه الأيدي الإنسانيَّة التي لا تَحْمل هويَّة دينيَّة أو قوميَّة محدَّدة، بل جمعها ما بقِي للإنسانيَّة من ضمير، فامتدَّت أيديهم لمساعدة هؤلاء المحْصورين المحاصرين بعُلبة الحليب وكيس الدَّقيق، وحبَّة الدَّواء وكسوة البدن.
وأخيرًا...
ظهر للمعنيين بأمن العدوِّ الغاشم أن يبْنُوا بأرْضهم جدارًا فولاذيًّا على غرار جدار العدوّ، لكن تحْت الأرض؛ ليمنع ما كان يأْتي أهل غزَّة خفيةً وفي السِّرِّ، من غذاء ودواءٍ وكساء، مما كان يتحتَّم أن يأْتي علانيةً وجهارًا كفرْض عين على المسلمين تجاه إخوانهم.
وزعَم أصْحاب الجدار أنَّه لحماية أمْنِهم من غزَّة!
تُرى مِن قنابلها أو دبَّاباتِها أو سلاحِها النَّوويّ؟!
نعم، صدقوا؛ إنَّهم خافوا أن تسْري روح غزَّة عبر الأنفاق، فيتعوَّد العرب أن يقولوا للصَّهاينة والأمريكيِّين: لا.
ولكن!
قد خاب جدار العدوِّ ولم يفعل ما أرادَه من إسكات صوت غزَّة عن قول كلمة الكرامة: لا.
ومِن هنا فلن يُفْلِح نوَّاب العدوِّ في إسكات هذا الصوت، وسيجعل الله ربُّ غزَّة وربُّ العدوّ وربُّ كلِّ الناس ومالكهم، والمتصرِّف فيهم كيف يشاء، سيجعل لهم مخرجًا وفرجًا.
{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} [الطلاق: 2].
{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق: 4].